(٣)
مضَتْ سنواتٌ وأنا على هذهِ الحالِ دونَ أن يعلّمني أحدٌ ما هي الرجولة ؟!
كنتُ أسمعُها منهم بالعموميات فقط في الحاراتِ و الأزّقة فبعدَ أن خرجْتُ من الميتم بقيْتُ لمصيري !
كنْتُ أتسكّعُ في الشوارعِ بدونِ وجهةٍ بحماقةٍ مني بأنَّ أحدَهم سوفَ يدلّني أين أبي !
وأين أمي ! و مَن أكون ؟!
بقيْتُ على هذهِ الحال طويلاً إلى أن جاءَ ذلك اليوم الذي خارتْ فيهِ قواي
ولم تعد تحملُني قدمايَ من الجوعِ !
و تعثّرْتُ بطريقي بفرنٍ كانَتْ رائحةُ الخبزِ تنبعثُ منهُ و تملأُ جوفي الفارغَ و لم أكنْ أملكُ أيّ دراهم
ممّا كنْتُ أكسبهُ من رسمي أحياناً لوجهِ فتاةٍ أو حلم عاشقٍ !
اقتربْتُ من صاحبِ الفرنِ أسألَهُ رغيفا أسدُّ بهِ جوعي ولكنّهُ رفضَ و غضبَ و دفعني خارجَ الفرنِ
وعندما باءتْ محاولاتي بالفشلِ لإقناعِهِ أمسكْتُ برغيفٍ طازجٍ عن الرفِّ وهمَمْتُ بالهربِ
ولكنَّ ذلكَ الفرّان كان يملكُ جسداً رشيقاً جداً مكّنه من اللحاقِ بي والقبض عليّ !
فأجلسني وأصبحُ ينهالُ عليّ بالأسئلةِ وعندما فهمَ قصتي كلّها تعاطفَ معي و أعطاني رغيفَ الخبزِ
وعرضَ عليَّ البقاءَ عندَهُ و عرفْتُ وقتها أنّ عصبيتهُ كانَت من الصبي الذي كان عنده والذي تركهُ ..
بقيْتُ عندهُ ومع الوقت وكما يقولون صرْتُ فراناً ولكنّني لم أتخلّى عن وطني الخيالي !
وكنْتُ كلّما أخذْتُ أجرتي منه أنفقها على شراءِ دفاترِ الرسمِ والألوان !
وكنتُ دائماً و رائحةُ الخبزِ والشبعِ تسري في بدني كانت تمرّ في خيالي وجوهُ أبي وأمي
وحينها أتذكّرُ قولَ المعلمةِ جودي 🙁 كلّما اشتقتَ إليهم ! ارسمهم !!) ..
كنْتُ أنامُ في ذلكَ الفرن ويُغلق عليّ البابَ في كلّ ليلةٍ ليأتي صاحبَ الفرنِ صباحاً
فيجدني وأوراقي و ألواني وصفحاتي !
كان يتساءلُ دوماً ماذا أفعلُ بتلكَ الدفاترِ التي أخفيها وأجمعها ..
وفي يومٍ طلبَها مني ! جمعهتهم وأعطيتهم له وطلبَ أن يأخذها معه !!
في تلكَ الليلةِ أولَ ما خطرَ ببالي أنْ أكونَ قد أزعجْتهُ وأن يكونَ رآني مقصراً في عملي !
إلى أن غلبني النعاس ونمْتُ لدقائق منتظراً قدومهُ في الصباح ..
كنْتُ طوالَ اللّيل أفكّرُ و أسألُ نفسي : ماذا تراهُ يريدُ من أوراقي ؟ أتراهُ قد وجدَ والديّ ؟!
في الصباح انفتحَ بابُ المحلِّ و إذ بالمعلّمِ يدخلُ ولكنّهُ لم يكنْ لوحدهِ !
دخلَ ومعهُ فتاة تحملُ دفاتري الرسم ..
يتبع —-
472 total views